لا يمكن محاربة الفساد بأحزاب فاسدة

lkhal_said_adala_walihsan_Raoudnews_mostafa.jpeg إفريقيا ضحية الارهاب
lkhal_said_adala_walihsan_Raoudnews_mostafa.jpeg إفريقيا ضحية الارهاب

 بقلم: سعيد الكحل

نص دستور 2011 في الفصل 36 على معاقبة “المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح، وعلى استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه، وكل مخالفة ذات طابع مالي”. كما ألزم السلطات العمومية بالتصدي لكل “أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية، وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها، وبإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها، والزجر عن هذه الانحرافات”. وشدد، في المقابل على “يعاقب القانون على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة، وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية”. كما نص على إحداث “هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها”، والتي خرجت إلى النور سنة 2015، حيث وضعت “الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد” برؤية» توطيد النزاهة والحد من الفساد بالمغرب بشكل ملموس في أفق 2025  « جاعلة من أهدافها الأساسية:

ــ جعل الفساد في منحى تنازلي بشكل ملموس وبصفة مستمرة وتعزيز ثقة المواطنين؛

ــ تحسين نزاهة مناخ الأعمال وتموقع المغرب دولياً.

بعد تسع سنوات من تأسيس هيأة النزاهة ووضع إستراتيجية محاربة الفساد، لم يشهد ترتيب المغرب في مؤشر مدركات الفساد تحسنا؛ بل تراجع إلى المرتبة 97 عالميا من أصل 180 دولة، بعدما كان يحتل المرتبة 88 سنة 2015، والمرتبة 80 من بين 183 دولة سنة 2011. الأمر الذي يستوجب البحث عن أسباب فشل استراتيجية مكافحة الفساد في تحقيق أهدافها؛ إذ لم يعد يفصلها عن أفق 2025 سوى أشهر معدودة. ولا تتعلق الأسباب بالإطار الدستوري، فهو واضح في إلزام الحكومة بالتصدي للفساد ووجوب ربط المسؤولية بالمحاسبة، والتي شدد عليها جلالته في خطاب العرش 2017:” وهنا أشدد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية، من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة.. إننا في مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب”.

إلى جانب الإرادة الملكية، فإن كل المقومات الدستورية والقانونية متوفرة لربط المسؤولية بالمحاسبة. فالدستور واضح، في أكثر من فصل، بوجوب إخضاع كل مسؤول إلى المحاسبة وعدم إفلاته من العقاب كما هو واضح في الفصل الأول من الدستور: “يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة”، أو في الفصل 154 الذي ينص ” تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور”.

أما الإطار القانوني ففيه ما يكفي من الفصول لمحاسبة الفاسدين والمرتشين والمخلين بمسؤولياتهم، وعلى رأسها الفصل 36 الذي يوجب “على السلطات العمومية الوقاية، طبقا للقانون، من كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية، وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها، وبإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها، والزجر عن هذه الانحرافات. يعاقب القانون على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة، وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية”. كل هذه الترسانة القانونية والدستورية استعصى عليها مواجهة الفساد ونهب المال العام بكل جدية وصرامة. الأمر الذي يستدعي البحث عن الخلل في مواضع أخرى.

في سنة 1796، وجّه الرئيس الأمريكي جورج واشنطن انتقادات شديدة للأحزاب السياسية لكونها أتاحت الفرصة لرجال “مخادعين وطموحين وبلا مبادئ لتقويض سلطة الشعب”. فالوضعية التي عليها الأحزاب المغربية اليوم لا تختلف عن تلك التي انتقدها الرئيس الأمريكي. فقد فتحت أبوابها للعناصر الفاسدة والمرتشية فطبّعت مع الفساد وعطّلت الدستور وخرقت القانون؛ مما وفّر الحماية لتلك العناصر التي نجدها في البرلمان كما نجدها في المجالس الترابية. وسبق لجلالته أن دعا الأحزاب إلى حسن اختيار مرشحيها لتدبير الشأن العام كما في خطاب 30 يوليوز 2016 (أدعو الأحزاب لتقديم مرشحين، تتوفر فيهم شروط الكفاءة والنزاهة، وروح المسؤولية والحرص على خدمة المواطن). لقد تجاهلت الأحزاب الدعوة الملكية فأفرزت حكومات وبرلمانات تفتقر للإرادة السياسية القوية لمحاربة الفساد ومحاسبة المفسدين. وهذا ما نبّهت إليه “رسالة النزاهة5” التي أصدرتها “الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها” في مارس 2024، حيث وجهت انتقاداتها إلى عجز الحكومة وعدم رغبتها في محاربة الفساد وأرجعت انتشاره إلى عاملين اثنين. أولهما: “المسؤولون الذين ينتهكون القانون ويعرضون أنفسهم للفساد لا تتم متابعتهم بشكل كاف”؛ ثانيهما: “عدم قدرة الحكومة على احتواء الفساد وعدم وجود آلية للنزاهة”.

لا يمكن، إذن، محاربة الفساد بأحزاب ينخرها الفساد ويعشش فيها المفسدون. ذلك أن الفساد، كما جاء في الرسالة التي وجهها جلالة الملك إلى القمة الـ 31 للاتحاد الإفريقي التي انعقدت، بالعاصمة الموريتانية نواكشوط تحت شعار “كسب المعركة ضد الفساد: مسار مستدام لتحويل إفريقيا” يوليوز 2018:“الفساد يساهم في الانحراف بقواعد الممارسة الديمقراطية، وفي تقويض سيادة الحق والقانون؛ كما يؤدي  إلى تردي جودة العيش، وتفشي الجريمة المنظمة، وانعدام الأمن والإرهاب”. هذه الانحرافات متفشية في واقعنا المغربي وكشفت عنها تقارير المجلس الأعلى للحسابات دون أن تكون للحكومات المتعاقبة الإرادة القوية لمحاكمة ومحاسبة كل المتورطين، تنفيذا للتوجيه الملكي (فمحاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع: الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضرب بقوة على أيدي المفسدين). خطورة الفاسدين أنهم ينهبون المال العام ويحرمون المواطنين من الاستفادة من المشاريع التنموية ومن فرص الشغل والخدمات الاجتماعية في تواطؤ مع المسؤولين في المجالس المحلية الذين افتحص قضاة المجلس الأعلى للحسابات صفقات التجهيز التي أشرفوا عليها دون أن تطالهم يد العدالة باستثناء أقلية قليلة منهم بعد أن صارت فضائحهم قضية رأي عام. وسبق للسيد إدريس جطو أن أكد أمام البرلمانيين، سنة 2020، أن المجلس ينجز ما بين 40 و 50 تقريرا افتحاصيا كل سنة، وأن المجالس الجهوية للحسابات تقوم تقريبا ب 250 مهمة رقابية واستطلاعية، وأن ھذه التقاریر لا تؤخد بعین الاعتبار من قبل الحكومة و البرلمان وتمر دون مناقشتھا أو الاشتغال علیھا وھي تقاریر مھمة تبرز النواقص و الاختلالات في القطاعات التي یتم افتحاصھا و مراقبتھا، وأن “فيها ما يكفي وهي تقارير جد مهمة للاقتصاد الوطني”.

وتكفي إطلالة سريعة على الحساب الإداري للمجالس الترابية لاكتشاف حجم النهب والتبذير بمبررات محاربة الجردان والكلاب الضالة ورغم ذلك لا تخلو مدينة من هذه الكائنات التي تهدد سلامة وصحة المواطنين، فضلا المبالغ الكبيرة المرصودة لتنقل الأعضاء وحفلات الاستقبال والمحروقات وقطع الغيار للأليات التي لم تعد صالحة للاستعمال. أما الملايير المرصودة للمشاريع الوهمية فحدث ولا حرج. كل هذا الفساد تمارسه وتشرف عليه الكائنات الانتخابية التي تنخر الأحزاب والمؤسسات المنتخبة حتى صارت لها سطوة جعلتها عصية على المحاسبة.

نحن، إذن، أمام وضع شاذ قال عنه جلالته (وأمام هذا الوضع، فمن الحق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانون هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟ فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين، تدفع عددا من المواطنين، وخاصة الشباب، للعزوف عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات. لأنهم بكل بساطة، لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل”. إن خطورة الفساد وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة لا تقتصر على فقدان الثقة في الأحزاب السياسية، بل تتجاوزها إلى الاقتصاد حيث تكلّف المغرب 5 % من الناتج الداخلي الخام، حسب الجمعية المغربية لحماية المال العام. الأمر الذي ينعكس مباشرة على تصنيف المغرب في مؤشر التنمية حيث احتل الرتبة 120 عالميا. ولا مخرج من هذا الوضع إلا بتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة عبر تحويل كل التقارير المنجزة من طرف المجلس الأعلى للحسابات على أنظار العدالة للبت فيها بالسرعة المعقولة التي لا تترك مجالا للمتورطين في الفساد للمناورة. وقد أثبتت التجربة المغربية أن أولى مداخل محاربة الفساد: إخراج وزارة العدل من العباءة الحزبية وجعلها وزارة للسيادة ضمانا للنزاهة وللفعالية، تفعيل قانون “من أين لك هذا” ثم تشديد عقوبة الإثراء غير المشروع.