في شقوق وأثلام الذاكرة
بقلم: أحمد حبشي
فاجأني بحديثه عن صباه، لم يخطر ببالي يوما منذ عرفته، ان وراء بسمته الطافحة وانشراحه الدائم حكايات مثقلة بالأشجان. رفقته كانت دوما صخبا وحديثا دافقا عن جميل القادم من الأيام. هي مسافة اختار أن يستعيد من خلالها وهج رحابة صدره وقوة عناده في أن يجعل من التحدي سبيلا لقهر ما استعصى من ألغاز الحياة. كلما استعدت بعضا من ذكرياتنا المشتركة، تتراقص أمام عيني ما كان يسرده من حكايات، حديثه عن أزهى اللحظات التي كان يمني النفس ان تتسع رحابها ويغنم من سويعات الدهر بما تفيض به من زكي الأحلام. بهاء قريته وجذور عثرته ومباهج صباه، حكاياته عن نزق الطفولة وشغب الرفقة. كانت تتفتق أساريره وهو يستعيد من الأيام أزهى اللحظات.
صولة الجلاد
في كل ذلك كان حريصا على أن يبث فينا بذرة أمل، لنعبر بسلام سراديب عزلتنا ونستعيد شراسة عنادنا، ونحن نواجه صولة الجلاد. كان الضحك منتزه تلفنا نسائمه فنسمو فوق مجاري جراحنا، يغمرنا اليقين بأننا سننتصر وإن امتد بنا الزمان أقصى مداه.
اليوم استعيد بعضا من تفاصيل الذكرى، وأقسم أني ما شلني الضحك وأخذ مني أنفاسي يوما، أكثر مما تملكني في حضرته ونحن ما بين العدم والوجود. كان جراب حكاياته الساخرة أوسع من زمن وجوده، وكأني به عاش ضعف ما عاشه أقرانه. كنا نتحلق حوله لنستعيد بعضا مما تركناه خلفنا من حكايات. يحكي عن صولاته في زمن الطلبة المتقد، تراس الصفوف وقوة الإقدام في الدفاع عن المبادئ والقناعة بجدوة الانتصار. الوطن فوق كل شيء، لا حدود للتضحية في سبيل بسط قيم الحرية والمساواة وكل ما يعزز حقوق الفرد وكرامة الجماعة.
التيه القاتل
ربما لم تكن الظروف مواتية للرجوع للحظات القاتمة من حياته، حتى لا يذكي الجراح ويوقظ المواجع، وقد سد كل منافذ الاستحضار لفترة قاحلة من مسار حياة كانت على أبواب تركه للضياع.
حين استعاد صفاء مهجته واتسعت المسافة بين ما كان يؤرق وجدانه ويشل ردة فعله، استباح الحديث عن القاتم من أيامه وما كان يدنيه من التيه القاتل ويلوح به في براثين العتمة والمصير المجهول. كان في التاسعة من عمره حين أعلن انتفاضته الأولى، أوقف المد الذي كان يقوده إلى حيث لا يريد. أعلن تمرده على ما كان يخطط له، ارغامه على أن يعيش على الهامش ويكتفي بما يجود عليه به الآخرون. لا أحد أصبح قادرا على شل عزيمته والحد من طموحه. اشتد عوده وأيقن أنها اللحظة التي عليه أن يبسط شروط العيش المشترك مع أخيه الأكبر، الذي أوكل إليه والده رعايته. لم يستقم مزاجه منذ أن أخل أخوه بوعده حين استقدمه إلى البيضاء على أن يواصل تعليمه ويطور ما اكتشفه معلم القرية فيه من نباهة وقدرة على الاستيعاب السريع لكل ما يلقن له. ظل يرغمه على فعل ما لا رغبة له فيه. كانت غاية الأخ أن يعتمده بالكامل لمساعدته في تنمية ثروته وتحقيق مآربه. لم يأخذ في الاعتبار رغبة الوالد ولا ما يطمح إليه أحد أصغر إخوته.
ويلات التهميش
هكذا يسرد حياته في أطوار، مسافات من المعاناة لتحقيق الذات وتقوية العزم على إيجاد المكانة التي تليق به كإنسان. أعلن المقاومة منذ نعوم أظافره، حقق انتصارات مكنته من الايمان بقوة إرادته. كان أكبر من أن تصده كل العوائق عن غايته وما يراه بديلا عن تحمل كل ويلات التهميش وإدلال. حين انخرط في صفوف مقاومة الاستبداد، كانت قد اكتملت رؤيته في تحديد منابع الظلم والاستصغار. لم يتنيه عن عزمه ما واكب من أحداث، رصاص يسقط أبرياء في الشوارع، سجون تكتظ بقامات نضالية لا ترهبها مشانق ولا الجور في الأحكام.
أشهد أن الرجل من معدن آخر، شهم، صنديد، صادق أمين، لا يخادع ولا يدعي أن الحقيقة هي ما انتهى إليه، يجادل ويصيخ السمع لمن لا تطابق رؤيته ومسعاه. علمته الأهوال أن لا شيء مكتمل وأن الحياة تعاش بكرامة وعزة نفس.
كلن من الداعين إلى الحوار
عرفته في لحظة قاسية شديدة الوقع على النفس والوجدان، لم نختلف كثيرا، كنا في صف واحد، اعترضنا على ما ذهب إليه البعض في تحديد صيغة الوطن، وفي تحديد معالم الطريق إلى الانعتاق. لم يخاطب الآخرين بعجرفة المالك
للحقيقة، كان مع الداعين إلى الحوار الدائم على قاعدة الوحدة وليس الانشقاق وقطع الأواصر.
هكذا ظل عزيز النفس طيب الخاطر، لا يحرجه أنه لا يشبه الآخرين، ولا يعتقد أنه الأفضل أو الأذكى. في ذات الوقت لا يستسيغ ان تهان كرامة أو لا تحفظ له حرمة. من ردات فعله حين يجابه استعلاء، يصرخ في تحد: شكون أنت؟ بشر بحالك بحالنا (من أنت؟ بشر كما نحن كذلك ) هو ذا لحسن مصطفاوي صاحب كتاب
” في شقوق وأثلام الذاكرة”