بقلم: جمال المحافظ
من خلال رصد ما تضج به مواقع التواصل الاجتماعي، والتراسل الفوري من ” آراء ومواقف وردود أفعال “، حول واقع الصحافة، والصحفيين، يمكن الخروج بفكرة أولية حول ” النقاش المهني” الدائر في أوساط منتمين لقطاع كان يحظى الى وقت قريب بنسبة عالية من ثقة الرأي العام، على الرغم من طبيعة الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالصحافة والعمل الصحفي، بالمقارنة مع الوضعية الراهنة.
ليس الغرض، تشخيص وضعية الصحافة والإعلام في الألفية الثالثة، لكن الاكتفاء ب” نقطة نظام” بالإشارة إلى أنه قليلا ما يتم الانتباه، في هكذا سجال إلى التراكم الحاصل في مجال الصحافة، أو منها أخلاقيات الصحافة والتنظيم الذاتي، التي يعمل البعض على أنها وليدة ” اتفاقات ” سنة 2016 المبرمة بين الحكومة المنتهية ولاياتها في 2021 والهيئات التمثيلية للناشرين والصحفيين، التي أسفرت بالخصوص عن اعتماد مدونة الصحافة والنشر والتنظيم الذاتي من خلال تأسيس” المجلس الوطني للصحافة” الذي يعد في الأصل نتيجة مجهودات ومبادرات سابقة.
وهكذا تعد تجربة أخلاقيات المهنة والتنظيم الذاتي، انتاجا خالصا لمسار طويل فادته النقابة الوطنية للصحافة المغربية SNPM ، على عهد كاتبها العام محمد العربي المساري ( 1936 – 2015 ) ومن كان معه، في الوقت الذي كان الصراع السياسي والمنافحة عن حرية التعبير والرأي ، العنوان الرئيس لانشغالات والمتحكم في مواقف نقابة SNPM ، منذ تأسيسها في يناير 1963، وإلى غاية بداية التسعينات، نتيجة السياقات التاريخية السياسية التي كانت سائدة في ستينات القرن الماضي، والتي كان العمل الصحفي خلالها فعلا سياسيا، حزبيا بامتياز.
كانت قضية أخلاقيات الصحافة، والتنظيم الذاتي، مطروحة على أجندة النقابة الوطنية للصحافة المغربية، منذ سنة 1993 خاصة في ظل انتشار ما كان يطلق عليه اسم “الصحافة الصفراء”، قبل ظهور الثورة الرقمية، وتزامن ذلك مع حدثين الأول انعقاد المناظرة الأولى للإعلام والاتصال، وانتخاب الكاتب الصحافي محمد العربي المساري كاتبا عاما للنقابة، خلفا لمحمد اليازغي ( يعود له الفضل في وضع الأسس التنظيمية والمطلبية للنقابة، وإدماج الصحفيين بها وتأسيس فروع تابعة لها ).
آداب المهنة
وهكذا بادرت نقابة الصحافة في في مارس 1993 إلى إنشاء آلية خاصة حول إشكالية أخلاقيات الصحافة، تحت اسم ” لجنة أداب المهنة” تضم شخصيات مشهود لها بالكفاءة وبالاستقلالية والمصداقية منها المهدي بنونة (1919 – 2010) مؤسس وكالة المغرب العربي، ومحمد العربي الخطابي (1929 – 2008) وزير إعلام أسبق ومصطفى اليزناسني، مدير جريدة “المغرب”.
وتولت ” لجنة أداب المهنة” مهام السهر على إعمال ميثاق للشرف، يتضمن تسعة بنود، مستمدة من المبادئ الكونية لحرية التعبير وحقوق الإنسان، ومن العمل الصحفي الهادف إلى الإخبار الصادق والنزيه والموضوعي، الملتزم بأخلاقيات الصحافة وبالتضامن المهني .
أما التحول الثاني فيرتبط بمخرجات الجمع العام الثالث الذي ترأسه سنة 1996 بالرباط، الكاتب والصحافي عبد الجبار السحيمي ( 1938- 2012 )، وانعقد تحت شعار “احترام أخلاق المهنة وتحسين أوضاع الصحفيين، شرط للنهوض
بالصحافة”، و تقرر فيه إحداث لجنة تعني بأخلاقيات مهنة الصحافة، ضمن لجان الدائمة للنقابة، تركز عملها على التعريف بأهمية أخلاقيات المهنة في أوساط الصحافة والصحفيين والمجتمع المدني والرأي العام، والتنبيه إلى الخروقات التي تطالها، فضلا عن الرد على شكاوى وتظلمات المواطنات والمواطنين التي تتوصل بها، في يتعلق بممارسات يعتبرونها مخلة بشرف المهنة.
حرية التعبير
هذا المسار الطويل الذي كان يتخلله تنظيم تظاهرات ولقاءات وطنية واستعراضا وتبادلا لتجارب دولية، بغاية البحث عن الآلية الكفيلة بالتعاطي مع هذا الموضوع، توج بتأسيس ” هيئة وطنية تهتم بحرية التعبير وأخلاقيات المهنة” سنة 2002، بناء على توصية من المؤتمر الرابع للنقابة المنعقد سنة 2000. وشكلت هذه المبادرة حدثا بارزا في تاريخ الصحافة المغربية والعربية والإفريقية، بالنظر لأهمية إحداث إطار مستقل من هذا النوع، بهدف ضمان حماية الصحافة والصحفيين، ويكون بمقدوره من جهة المساهمة في تطوير الأداء المهني، والدفاع في نفس الوقت عن حرية التعبير.
وشكل تأسيس هذا الإطار المدني تحت اسم “الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير” مرحلة متطورة في مجال أخلاقيات المهنة والتنظيم الذاتي على المستوى الوطني. كما اعتبر، تقدما مهما، نحو معالجة هذه الإشكالية بطريقة أكثر نجاعة. هذه التجربة تستلهم في هذا المجال تجارب الدول الديمقراطية، وتتوجه باستقلالية نحو معالجة قضايا الصحافيين انطلاقا من تعهدات والتزامات يعملون بأنفسهم على وضعها واحترامها في نفس الوقت، دون إتاحة الفرصة لأطراف خارج المهنة، لإيجاد تبريرات وتوجهات تتناقض مع مبادئ حرية التعبير التي لا تتناقض مع أخلاقيات مهنة الصحافة، ويشكلان بالتالي وجهان لعملة واحدة.
إطار مستقل
غير أن تشكيل هذه الهيئة، وتنصيب أعضائها في 19 يوليوز 2002 في حفل كبير بالرباط، بحضور وازن للصحافيين والناشرين والإعلاميين والفرقاء من مختلف المستويات الحكومية والسياسة والمجتمع المدني الحقوقي والثقافي والتربوي، لم يكن يسيرا، بل تطلب نقاشا واسعا وجهدا كبيرا ونقاشا عميقا ومسؤولا استغرق وقتا طويلا دام سنتين، فرضه إرادة وطموح المهنيين، بهدف تأسيس إطار مهني يكون مستقلا تمثل ، وأن تمثل فيه الصحفيات والصحافيين، بدعم وطواعية من الهيئات الحقوقية الأكثر حضورا وتمثيلية وتحظى بمصداقية لدى المجتمع والرأي العام.
الوظيفة الأساسية لهذه الهيئة – حسب ميثاقها- كان يتمثل في العمل على رصد الاختلالات المهنية، وتقويم الأداء المهني، والتصدي التلقائي للانتهاكات التي قد تطال حرية الصحافة والتعبير، على أساس أن آراءها وقراراتها ، تكتسي قيمة اعتبارية تستمدها من عنصري الثقة ومن الإجماع اللذين يحظى بها أعضاؤها من طرف المهنيين والفاعلين والرأي العام، وذلك بوصفها سلطة أخلاقية ومعنوية داخل أسرة الصحافة من جهة والفاعلين من جهة أخرى.
تجربة فريدة
وإذا كان لحد الآن ليس معروفا بدقة، الأسباب الكامنة وراء توقف هذه الهيئة التي انتخب رئيسا لها الجامعي محمد الادريسي العلمي مشيشي وزير العدل الأسبق، خاصة بعد شروعها في معالجة بعض الشكاوى والملفات المحالة عليها من لدن هيئات ومؤسسات على أعلى المستويات السياسية والحكومية، وكذا من صحافيين ومواطنات ومواطنين واعلامين،
وهو الأمر على ما يبدو “أزعجت البعض ” هذه الدينامية والمصداقية التي اكتسبتها الهيئة التي لاحظ أعضاؤها العراقيل التي كانت أمام هذه التجربة المستقلة والفريدة في مجال التقنين والتنظيم الذاتي التي كانت محل ثقة وإشادة وطنيا ودوليا.
فضلا عن ذلك كانت هناك عوامل أخرى وراء تعثر هذه الهيئة، من أبرزها ” تقاعس بعض مكونات هذا التنظيم، عن الالتزام بالحضور والمتابعة، خاصة الأعضاء الذين انتدبتهم الفيدرالية المغربية للناشرين الذي اكتفى غالبيتهم بحضور حفل تنصيب أعضاء الهيئة، كما ساهم انفراد هذه الفيدرالية باعتماد ميثاق للأخلاقيات يتضمن بنودا في غالبيتها كانت تمثل قيودا على حرية الصحافة والتعبير” كما جاء في إحدى مداولات الهيئة.
تعديل جيني
وعلى الرغم من أهمية هذه الهيئة، التي لم تكن تتوفر على أي دعم لوجستي أو مقر خاص بها، فإن البعض، كان لا يخفي معارضته، لمواصلة الهيئة لعملها، بدعاوى مختلفة منها القول بأن ” الهيئة ولدت ميتة”، خاصة بعد طرح المشروع الأولي للمجلس الوطني للصحافة سنة 2007 في الدقائق الأخيرة من ولاية الحكومة التي كان وزيرها الأول ادريس جطو، وهو المشروع الذي توقف بشكل نهائي منذ ذلك التاريخ إلى أن تم إقرار قانون هذا المجلس سنة 2016، الذي استلهمت فكرته الأساسية من تجربة ” الهيئة المستقلة لأخلاقيات المهنة وحرية التعبير”،
لكن بعد تعديلها ” جينيا، حتى لا يقال ” استنساخها بشكل ردئ ” في “توافقات” سنة 2016، وتلك قصة أخرى. وهكذا يتضح بأن إشكاليات أخلاقيات المهنة، والتنظيم الذاتي ليس وليد سياقات سنة 2016 وما تلاها، بل جاء بمبادرة خالصة من الصحفيين أنفسهم، من خلال هيئتهم التمثيلية آنذاك وذلك بالاستفادة من خبرات أساتذة ومختصين وطنيا ودوليا في مجال الصحافة والإعلام.
استعادة الثقة
وبغض النظر عن الإشكاليات المركبة التي يعاني منها المشهد الصحفي والإعلامي الذي يتميز بأسئلة جديدة، فإن المرحلة الراهنة تتطلب من الجميع البحث عن الشروط الكفيلة بتنقية الأجواء الصحافية والإعلامية، وإعادة النظر في قوانين الصحافة والاعلام وجعلها تتلاءم مع التحولات المتسارعة الراهنة خاصة في ظل الثورة الرقمية، والتوجه نحو المستقبل، وهذا ما يتطلب من الصحفيين الترفع عن الصراعات ذات الطبيعة الشخصية التي لن تساهم بأي شئ إيجابي إلا في تعميق ما يعرفه منسوب ثقة الرأي العام بالصحافة والإعلام من تراجع كبير وبتدنى صورة الصحافة والصحافيين.